فصل: مطلب في الرؤيا وماهيتها وما يفعل رائيها وفي الحواس العشرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ملا حويش:

تفسير سورة يوسف:
عدد 3- 53 و12
نزلت بمكة بعد سورة هود عدا الآيات 2 و3 و7 فإنهن نزلن بالمدينة.
وهي مئة واحدي عشرة آية.
ومثلها في عدد الآي سورة الإسراء فقط.
وألف وستمائة كلمة.
وستة آلاف وستون حرفا.
لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: {الر} تقدم ما فيه أول سورتي هود ويونس المارتين فراجعهما وما يرشدانك إليهما {تِلْكَ} الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل هي: {آياتُ الْكِتابِ} الأزلي المدون في اللوح المحفوظ {الْمُبِينِ} لكل شيء من علوم الدنيا والآخرة.
وهاتان الآيتان المدنيتان من هذه السورة، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} سمي بعض القرآن قرآنا لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير، وكما يطلق على الكل يطلق على البعض، ولا يرد ما قيل إن بعض كلماته أعجمية في الأصل على قوله عربيا كاليم والقسطاس وغيرهما، لأنها عربية قبل نزول القرآن والعرب يتكلمون بها قديما بما يدل على أن الأصل استعمالها في اللغة العربية والأعاجم أخذوها منها كغيرها من الكلمات المستعملة عندهم، راجع الآية 182 من الشعراء المارة تجد ما يتعلق في هذا البحث مستوفيا، وقد يكون بعضها من باب توارد اللغات كما يكون في الشعر أحيانا من باب توارد الخاطر، وسبب إنزاله باللغة العربية: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 2 معانيه وتتدبرونها فتعلمون المراد منها، ولو أنزله بلغة أخرى لا حتججتم وتقدمتم بالأعذار من عدم فهمه وصعوبة تعلمه، فيا أكمل الرسل إنا {نَحْنُ} إله السموات والأرض {نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} في هذه السورة قصة واقعة قبل زمنك مدونة في الكتب القديمة، ولكن كل ما نقصه في هذا القرآن أحسن مما قصصناه قبل وأوسع وأصح، لأن الكتب الموجودة لعبت فيها أيدي غير طاهرة فبدلت وغيرت فيها لذلك لا يعتمد على ما جاء فيها إذا كان مخالفا لما في هذا القرآن، وقد قصصناها عليك الآن كاملة لنقصها على قومك لما فيها من العبر والحكم، والنكت، والفوائد الدينية والدنيوية، وسير الملوك، والمماليك، والعلماء، ومكر النساء، والصبر على الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء، والعفو عند المقدرة، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، بصورة مفصلة لم يعلمها غيرك، كما سنقص عليك في غير هذه السورة قصصا أخرى غير ما تقدم لتحيط علما بما كان وما سيكون من علمنا الأزلي.
قال خالد بن سعداه: يتفكه أهل الجنة بسورة يوسف وسورة مريم وسماعهما يريح كل محزون.
والقصص بفتح القاف اتباع الخير بعضه بعضا، وبالضم جمع قصة وهي الحكاية تذكر شيئا فشيئا، أي إنا نبين لك يا أكرم الرسل أخبار الأمم الماضية أحسن بيان، ولذلك قال أحسن القصص وكل قصص القرآن حسن، وفيه ما هو أحسن، قال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول اللّه فتلاه على أصحابه زمانا، فقالوا يا رسول اللّه لو قصصت علينا، فنزلت هذه السورة.
وقيل إن كفار مكة أمرتهم طائفة من اليهود أن يسألوا رسول اللّه عن السبب الذي أحل بني إسرائيل في مصر، فسألوه، فنزلت.
وقيل قالت اليهود لمشركي مكة صلوا محمدا عن أمر يعقوب وقصة يوسف مع اخوته، وكانت عندهم بالعبرانية، فأنزل اللّه هذه السورة ليفهمها للعرب.
وقدمنا في المقدمة أن القرآن منه ما نزل بسبب أو على سؤال أو حادثة، ومنه ما نزل بغير ذلك، فلا يشترط للنزول سبب، بحيث لم ينزل بشيء من القرآن إلا بسبب، تدبر {بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ} قبل نزوله وإيحائه إليك: {لَمِنَ الْغافِلِينَ} 3 عنه يا محمد وعما فيه من أخبار الأمم الماضية، وقصص الأنبياء، وكيفية الخلق مما لم يخطر ببالك أننا ننزل عليك وحينا ولم تتصور إخبارنا لك عن عجائب أخبار الأولين.
وما في صدر الآية مصدرية، وإن مخففة من الثقيلة، واللام في لمن الفارقة بينها وبين ان النافية، انتهت الآيتان المدنيتان الأوليان.
قال تعالى واذكر يا محمد لقومك: {إِذْ قالَ يُوسُفُ} وهو الكريم بن الكريم بن الكريم {لِأَبِيهِ} يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام المتصل نسب سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم إليه وهو:
نسب كان عليه من شمس الضحى ** نورا ومن ضوء الصباح عمود

{يا أَبَتِ} بتاء التأنيث المعوضة عن ياء الإضافة لتناسبها، لأن كل واحدة منها زائدة في آخر الاسم، ولهذا تقلب هاء بالوقف، وجاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر كما في رجل ربعة، وكسرت التاء لتدل على الياء المحذوفة، ومن فتح التاء فقد حذف الألف في يا أبتاه، واستبقى ما قبلها كما فعل في حذف الياء في غلام، ومقول القول قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ} رؤيا منامية.
واعلم أيها القارئ أنا سنأتي على هذه القصة تدريجيا بحسب نزولها ليكون أوقع في النفس وأقرب للفهم، وأخصر للفظ، وحذرا من تكرارها، فتدبرها تباعا من أولها في هذه الآية إلى آخر الآية... منها {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} [4] جمعها جمع من يعقل وقال رأيتهم ولم يقل رأيتها لأنه أخبر عنها بفعل العقلاء كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ} الآية [18] من سورة النمل لتنزيلها منزلة العاقل، ومثل هذا كثير في القرآن حتى في الأصنام لهذه العلّة {قالَ يا بُنَيَّ} صغّره تعظيما له وشفقة عليه أو لعذوبة اللفظ وقال له {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ} هذه الآن {عَلى إِخْوَتِكَ} فإن لها مغزى عظيما وأخاف إذا قصصتها عليهم أن يحسدوك عليها لما يتخيلون من معناها {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} عظيما يخشى عليك من عاقبته، أمره عليه السلام بكتمان رؤياه، لأنه عرف من معناها أن اللّه تعالى يصطفيه لنبوته وينعم عليه في الدارين، وإن لها عاقبة حسنة، فحذرا من أن يتفرس إخوته بتأويلها فيغاروا منه فيحتالوا عليه فيهلكوا، لأنهم وإن كانوا عقلاء فلا يؤمن عليهم من اتباع وساوس الشيطان، لذلك قال: {إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ} أراد جنسه ليشمل كل أفراده الأنبياء، فمن دونهم قبل نبوتهم، لأنه بعدها لا تأثير له عليهم لعصمتهم من قبل اللّه: {عَدُوٌّ مُبِينٌ} 5 عداوته لأنه لم يخفها منذ أظهرها لآدم عليه السلام، وإنما قال يا بني بالتصغير حنانا عليه ورأفة به، لأنه كان يحبه حبا مفرطا أوجب حسد إخوته له قبل الرؤيا، فإذا سمعوا هذه الرؤيا يزداد حسدهم ويفتح لهم الشيطان باب التزيين لإهلاكه.
ولهذا خاف عليه من أن يبيّن لهم نتيجة محبة أبيه وما يؤول أمرهم منها، ويحسن لهم التخلص منه وبين لهم سبلها قبل أن يكبر فيعجزوا عنه ويسيطر عليهم.

.مطلب في الرؤيا وماهيتها وما يفعل رائيها وفي الحواس العشرة:

روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال كنت أرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول «الرؤيا الصالحة من اللّه، والرؤيا السوء من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يحبّ فلا يحدث بها إلا من يحب، وإذا رأى أحدكم ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا. ويتعوذ باللّه من الشيطان الرجيم وشرّها فإنها لا تضره».
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبّها فإنها من اللّه فليحمد اللّه عليها وليحدث بها (أي من يحب حملا للمطلق على المقيد لأن الحديث الأول قيد التحدث بها لمن يحبه الرائي) وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنها من الشيطان فليستعذ باللّه من الشيطان ومن شرها»، أي ويفعل كما فعل بالحديث السابق ولا يذكرها فإنها لا تضره.
وروى مسلم عن جابر رضي اللّه عنه قال إن رسول صلى اللّه عليه وسلم قال «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ باللّه من الشيطان الرجيم ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه».
لم نعرف نحن مدخلية البصق على اليسار والتحول عن الجنب الذي كان عليه لكن القائل يعرفه حق المعرفة لأنه لا ينطق عن هوى، فعلى العاقل أي يفعل ما أمره به نبيه وحبيبه صلى اللّه عليه وسلم، فهو سبب السلامة من المكروه الذي يراه، كما أن الصدقة سبب للوقاية في المال والجسم ودفع البلاء وأخرج الترمذي وأبو داود عن أبي ذر العقيلي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة».
وفي رواية من ستة وأربعين وهي على رجل طائر ما لم تعبّر، فإذا عبرت وقعت ولا نقصها إلا على وادّ وذي رأى.
وهذه الرؤيا التي تحتمل وجودها، فإذا عبر بأحدها وقع واللّه أعلم.
وقدمنا أول الإسراء والآية 142 في الأعراف أيضا، وفي الآية 94 من سورة يونس المارة ما يتعلق بهذا البحث فراجعه ترشد إلى المواقع المتعلقة في هذا البحث وفي رؤية اللّه عز وجل أيضا ونزيدك هنا إيضاحا، فاعلم رعاك اللّه ان حقيقة الرؤيا خلق اللّه في قلب المؤمن النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، وجعلها علما على أمور أخرى يجعلها في ثاني الحال وهو يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة، وماهيتها عبارة عن ارتسام صورة المرأى وانتقاشها في مرآة القلب في النوم، فيحتفظ بها المؤمن بعد اليقظة، راجع الآية 60 من سورة الإسراء.
واعلم ان الحواس ظاهرة وباطنة، فالظاهرة خمس:
السمع والبصر والشم والذوق واللمس، والباطنة خمس أيضا: المفكرة والذاكرة والحافظة والمخيلة والواهمة والحس المشترك، وتسمى هذه الحواس والحس المشترك المعدود في الباطنة قوى، ويسميها المناطقة والمتكلمون العقول العشرة، ولكل واحدة منها كوكب يضيء يدرك به معنى يناسبه سواء في اليقظة أو في النوم.
وقال علماء الصوفية الرؤيا من باب العلم ولكل علم معلوم، ولكل معلوم حقيقة، وتلك الحقيقة صورته، والعلم عبارة عن وصول تلك الصورة إلى القلب وانطباعها فيه، سواء كان في النوم أو في اليقظة، فلا محل له غير القلب، ولما كان عالم الأرواح متقدما في الوجود والمرتبة على عالم الأجسام، وكان الإعداد الرباني الموصل إلى الأجسام موقوفا على توسط الأرواح بينها وبين الحق، وتدبير الأجسام مفوض إلى الأرواح وتعذر الارتباط بين الأرواح والأجسام للمباينة الذاتية الثابتة بين المركب والبسيط، فإن الأجسام كلها مركبة والأرواح كلها بسيطة، فلا مناسبة ولا ارتباط بينهما، وما لم يكن ارتباط لا يحصل تأثير ولا تأثر، ولا إمداد ولا استمداد، فلذلك خلق اللّه تعالى عالم المنازل برزخا جامعا بين عالم الأرواح وعالم الأجسام ليصبح ارتباط أحد العالمين بالآخر، فيتأتى حصول التأثير والتأثر ووصول الامداد والتدبير، وهكذا شأن روح الإنسان مع جسمه الطبيعي العنصري الذي يدبره ويشتمل عليه علما وعملا.
ولما كانت المباينة ثابتة بين روح الإنسان وبدنه، وتعذر الارتباط الذي يتوقف عليه التدبير ووصول المدد اليه خلق اللّه تعالى لنفسه الحيوانية برزخا بينهما أي بين البدن والروح المفارق، فنفسه الحيوانية في ميزاتها قوة معقولة، فهي بسيطة تناسب الروح المفارق، ومن حيث انها مشتملة بالذات على قوى مختلفة متكثرة منبئة في أقطار البدن متصرفة بتصرفات مختلفة ومحمولة أيضا في البخار الضبابي الذي هو في التجويف الأيسر من القلب الصنوبري يتناسب المزاج المركب من العناصر.